مساع فرنسية بريطانية جادة لردع التهريب وإعادة المهاجرين

لندن- بينما كان رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر يسعى جاهدا لإقناع حلفائه وخصومه معا بجدوى صفقة إعادة المهاجرين التي أبرمها مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته مؤخرا إلى لندن، كانت المزيد من القوارب الصغيرة تشق طريقها باتجاه السواحل البريطانية، في تحد لكل الإجراءات الصارمة لوقف تدفقها.
وتحوم شكوك واسعة بشأن قدرة الاتفاق البريطاني الفرنسي على ردع المهاجرين عن عبور القنال الإنجليزي الذي يفصل بين بريطانيا وفرنسا، ويزيد من حدة الخلافات الأوروبية بشأن تقاسم أعباء الهجرة وآليات توزيع المهاجرين بين دول الاتحاد الأوروبي.
وينص هذا الاتفاق على أن تستعيد فرنسا المهاجرين غير النظاميين الذين يصلون إلى السواحل البريطانية، مقابل قبول المملكة المتحدة العدد نفسه من طالبي اللجوء القادمين من فرنسا عبر مسار قانوني.
تدفق القوارب
وبينما أكدت الداخلية البريطانية أن أعداد المهاجرين غير النظاميين -الذين وصلوا البلاد على متن القوارب المطاطية في غضون يومين فقط- بلغ حوالي 700 مهاجر، قال خفر السواحل إنه أجرى عمليات إنقاذ وتدخل سريع لاعتراض قوارب في المياه الإقليمية خلال الأيام الماضية.
ورغم إصرار ستارمر على وصف الاتفاق بـ”اللحظة الفارقة التي ستقلب الطاولة على شبكات المهربين” لم يخض المسؤولون البريطانيون في تفاصيل الصفقة، ورفضت وزيرة الداخلية إيفيت كوبر تحديد أعداد المهاجرين الذين سيتم إبعادهم إلى فرنسا، مما دفع نواب معارضين لانتقاد الاتفاق بوصفه غامضا وغير قابل للتنفيذ.
وتهدد الداخلية البريطانية بأن أي مهاجر يصل البلاد وتتم إعادته إلى فرنسا -ويعيد الكرة ثانية- لن يحظى بفرصة طلب اللجوء، في محاولة لردع شبكات التهريب وتقليص فرص المهاجرين في الاستقرار بالبلاد.
وقد أشارت صحيفة لوموند -نقلا عن مسؤولين فرنسيين- أن العدد الأولي للمهاجرين الذين ستتم إعادتهم أسبوعيا من بريطانيا إلى البلاد سيبلغ 50 مهاجرا، في الوقت الذي يصل ما يقدر بحوالي 782 شخصا أسبوعيا على متن قوارب الهجرة التي تعبر القنال الإنجليزي بنجاح.
وتواصل السلطات البريطانية تقديم المساعدات والتمويل لحرس الحدود الفرنسي بالقرب من مناطق العبور، وقد رحبَّت أيضا بموافقة السلطات الفرنسية على السماح لضباط الشرطة بدخول المياه الضحلة وإغراق القوارب ومنعها من المغادرة باتجاه المياه البريطانية.
رفض واتهام
ويعد ملف الهجرة مثار استقطاب حاد بين حكومة حزب العمال والمعارضين لسياساتها، سواء من الأحزاب اليمينية كالمحافظين وحزب الإصلاح أو الأصوات اليسارية المدافعة عن حقوق المهاجرين.
ولا يبدو أن صفقة تبادل المهاجرين -التي تردد الفرنسيون طويلا قبل إبرامها مع ستارمر- محل ترحيب لدى معارضي الحكومة العمالية، فلا ينظر إليها كإنجاز يقفز على واقع أرقام الداخلية البريطانية التي تشير إلى تجاوز أعداد المهاجرين غير النظاميين 21 ألفا منذ بداية 2025.
ويصر وزير الداخلية في حكومة الظل المعارضة كريس فيليب أن ستارمر أخطأ حين تخلى عن خطة حكومة المحافظين السابقة بترحيل كل طالبي اللجوء إلى رواندا إلى حين البت في طلباتهم، في حين تبدو حكومته عاجزة عن ابتداع سياسات ناجعة لوقف تدفق الهجرة غير النظامية.
وتُرجح ماريا ساراتيس الخبيرة بشؤون الهجرة بالوكالة الأوروبية لحقوق الإنسان أنه بعد فشل خطة رواندا لترحيل اللاجئين خارج الحدود واستمرار تدفق المهاجرين لسواحل بريطانيا رغم كل القوانين الصارمة، فإن أي خطة مماثلة تعالج الهجرة كمسألة أمنية صرفة سيكون مصيرها الفشل أيضا.
وتوضح ساراتيس -بحديثها للجزيرة نت- أن السلطات البريطانية تواصل غض الطرف عن العوامل المركَّبة التي تدفع المهاجرين للمخاطرة بحياتهم ولا تقدم حلا متوازنا وشاملا، حيث يعمد المهربون والراغبون في الوصول إلى الضفة البريطانية للبحث عن مسالك جديدة للالتفاف على تلك الإجراءات.
ولم تترد إيمي بوب المديرة العامة للمنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة -في حديث لصحيفة فايننشال تايمز- في مهاجمة المخطط البريطاني، وحذَّرت من أن هذه الإجراءات تطبق لأول مرة داخل الديمقراطيات الأوروبية، وقد تشكل خرقا محتملا للاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
وخلال تقديمه في مايو/أيار الماضي نظاما جديدا يفرض قوانين هجرة أكثر تشددا وصرامة، وصف ستارمر بريطانيا بأنها قد تحولت إلى “جزيرة للغرباء” متعهدا بمحاصرة أعداد المهاجرين الوافدين إلى أراضيها.
عقدة البريكست
وبينما كان الرئيس الفرنسي إلى جانب ستارمر يعلنان توصلهما لاتفاق لم تستطع حكومة المحافظين إبرامه خلال السنوات الماضية، حمَّل ماكرون اتفاق “بريكست” مسؤولية تفاقم أزمة الهجرة.
وأشار ماكرون إلى غياب ترتيب واضح بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي لإدارة هذا الملف بعد الخروج من التكتل الأوروبي، قائلا إنه ساهم بتعقيد الوضع وتزايد أعداد العابرين.
وستواجه صفقة إعادة المهاجرين المبرمة بين بريطانيا وفرنسا تدقيقا قانونيا من الاتحاد الأوروبي، مما يثير توجس مناصري خروج بريطانيا من الاتحاد الذي يرون في التدخل مساً بعقيدة “بريكست” وخرقا لمبدأ إدارة شؤون البلاد بمعزل عن مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
وقد انتقد نايجل فاراج زعيم حزب الإصلاح -الموصوف باليميني المتطرف- توقيع بريطانيا على اتفاق الهجرة مع فرنسا، واصفا ستارمر بأنه يتصرف كزعيم لدولة ضمن الاتحاد الأوروبي لا كبلد مستقل خارج على سيادة الكتلة الأوروبية.

ومن جهته، يرى نايك تورنبول أستاذ السياسات العامة بجامعة مانشستر -في حديث للجزيرة نت- أن تدبير ملف الهجرة ما زال يغذي انقساما حادا بصفوف النخب البريطانية منذ اتفاق بريكست. وبينما تحاول بعض الأطراف تبني سياسات حادة تجاه المهاجرين، يسعى ستارمر أن يجد لسياساته مكانا في المنتصف ويقدم الاتفاق على أنه خطوة براغماتية متوازنة لن تجلب متاعب حقوقية لحكومته.
وتعارض هذا المخطط دول أوروبية كإيطاليا واليونان وإسبانيا، وتحذر من أن المهاجرين الذين ستعيدهم بريطانيا إلى فرنسا من المحتمل أن يشقوا طريقهم باتجاه بلدان الجنوب الأوروبي مما يزيد الأعباء على هذه الدول.
ولكن الحكومة البريطانية تبدو متفائلة باحتمال موافقة الاتحاد الأوروبي على الخطة، حيث صرَّح متحدث باسمها أن المسؤولين البريطانيين واثقون من مواءمة الاتفاق المعلن -مع فرنسا- لالتزامات حقوق الإنسان الأوروبية، ما دامت بلدا آمنا يمكن ترحيل المهاجرين إليه وعضوا بالمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
ويحاول قانون الهجرة الجديد الذي تبنته حكومة ستارمر قطع الطريق على طالبي اللجوء وعرقلة احتكامهم للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وذلك للطعن بقرارات ترحيلهم أو منع لم شملهم بأسرهم. في وقت تتهمهم الحكومة بالالتفاف على القانون عبر إشهار بند “الظروف الخاصة” بالاتفاقية الأوروبية لإقناع القضاة بحقهم في البقاء بالبلاد.
ومن جانبها تشير سوزي أدينسون الباحثة في العلاقات الأوروبية بالمركز الأوروبي للسياسات الخارجية -للجزيرة نت- إلى أن التفاهمات البريطانية الفرنسية قد تمثل محرك دفع قويا لملفات عالقة بين بروكسل ولندن، وفي مقدمتها أزمة الهجرة غير النظامية، لكن يصعب أن تصبح بديلا عن اتفاقيات أشمل مع الاتحاد الأوروبي الذي يعد الإطار المرجعي لأي سياسات هجرة أوروبية.