Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
ثقافة وفنون

تداعيات الرسوم الجمركية: ترامب يرفع جدران الخوف والأسواق ترتجف

اعلان

في مشهدٍ يعيد إلى الواجهة أسوأ هواجس النظام الاقتصادي الدولي، أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب واحدة من أشرس الهجمات الاقتصادية في العصر الحديث، عبر فرض حزمة غير مسبوقة من الرسوم الجمركية طالت أغلب شركاء الولايات المتحدة التجاريين، لتغدو الخطوة بمثابة إعلان حرب اقتصادية شاملة. هجمة وصلت بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى وصفها بـ”الوحشية”.

هذه السياسة، التي فاجأت الأسواق بحجمها وتوقيتها، كانت أكثر من مجرد أداة تفاوضية صاخبة، وتحوّلت سريعاً إلى صدمة عالمية أظهرت هشاشة المنظومة المالية، ودفعت المستثمرين إلى إعادة حساباتهم في ظل احتمالاتٍ حقيقية بانزلاق الاقتصاد الدولي نحو ركودٍ حاد.

الأزمة الجديدة تطرح سيناريوهات كارثية على جميع الاقتصادات من دون استثناء، إذ أن التصريحات المستمرة لترامب وإدارته منذ سنوات، تشير إلى محاولة تغيير بنيوي في النظام الاقتصادي الدولي، وميلاً حاداً إلى إحداث انقلابات جذرية في التجارة الدولية من ناحية، وفي السياسة الأمريكية تجاه الحلفاء من جهةٍ ثانية، ثم في النظام السياسي الأمريكي من جهةٍ ثالثة، وهذا كله ضمن سياقٍ تبدو إشاراته المختلفة مناهضةً للعولمة الاقتصادية، ومؤيدةً للحمائية الوطنية، الاقتصادية أولاً، والتي تترجم ثانياً في تراجع الالتزامات الأمنية الأميركية تجاه الحلفاء والأحلاف التي تقودها واشنطن.

وبحسب ما أوردته مجلة “ذا إيكونوميست”، فإن القرارات الجمركية المفاجئة –والتي جاءت بلا مقدمات تمهيدية– أثارت موجة من الذعر في الأسواق، انعكست مباشرة على مؤشرات الأسهم والعملات والسلع. فقد انخفض مؤشر راسل 3000، أحد أوسع مؤشرات الأسهم في الولايات المتحدة، بنسبة 5% خلال 24 ساعة فقط من إعلان القرار.

وجاء الرد الصيني سريعاً، حيث أعلنت بكين فرض رسوم انتقامية بنسبة 34% على الواردات الأميركية، ما أدى إلى مزيد من الانخفاض بلغ 6% إضافية في المؤشر ذاته. بهذا التصعيد المتبادل، دخل الاقتصاد العالمي مرحلة جديدة من عدم يقين، قوامها التوتر والمخاطر المتنامية.

اختلالات متزامنة في أسواق متعددة

اللافت أن أثر هذه الهزة لم يقتصر على البورصات، بل تسرب إلى أسواق الذهب والدولار والنفط والنحاس. ففي ظروف مشابهة، كان من المفترض أن يقف الذهب كملاذ آمن، لكن الأسعار انخفضت بشكل غير معتاد، ما يشير إلى حجم الارتباك.

الدولار الأميركي بدوره تراجع، في سلوك مناقض للعرف في أوقات الأزمات، مما عكس أزمة ثقة أعمق. أما أسعار النفط، فقد هبطت من 75 إلى 66 دولاراً لبرميل خام برنت، في إشارة واضحة إلى قلق الأسواق من انكماش محتمل في الطلب العالمي. النحاس –المعدن الصناعي الأبرز– لم يكن أيضاً بمنأى عن هذا المشهد، فانخفض بدوره، في حين تراجعت أسهم البنوك الكبرى، وارتفع مؤشر التقلبات العالمي  VIX، وهو مؤشر يُقاس عليه منسوبالخوف في الأسواق.

ولم تكن ردود الأفعال عشوائية أو لحظية، بل عبّرت عن تحوّل استراتيجي في سلوك المستثمرين. فقد ارتفعت الاستثمارات في الأسهم “الدفاعية” –التي تشمل قطاعات مثل المرافق والخدمات الأساسية– باعتبارها أقل تأثراً بالدورات الاقتصادية، مقابل تراجع ملحوظ في الأسهم “الدورية” كصناعة السيارات والطيران، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بثقة المستهلك والمناخ الاقتصادي العام. وقد بلغ الفارق في الأداء بين الفئتين نحو 8% لصالح الأسهم الدفاعية، وهو أكبر تفاوت يُسجّل منذ تفشي جائحة كوفيد-19، ما يؤشر إلى أن الأسواق باتت تتعامل مع الوضع الراهن باعتباره نذير ركود لا مجرد اضطراب مؤقت.

أبعاد عالمية… من واشنطن إلى طوكيو مروراً بأوروبا

ورغم أن الأسواق الأميركية بدت الأكثر تأثراً، إلا أن الضغوط امتدت إلى بقية الاقتصادات المتقدمة والناشئة. ففي أوروبا، تراجعت مؤشرات الأسهم بنسب تقارب ما حدث في وول ستريت، بينما سجّلت الأسواق الآسيوية –وخاصة اليابان والأسواق الناشئة– خسائر أقل حدة ولكنها مقلقة. كما خفّض المستثمرون توقعاتهم لأرباح الشركات الأميركية والأوروبية بنسبة متقاربة (1.5%)، ما يعكس قناعة بأن الألم الناتج عن الرسوم لن يكون محصوراً في الولايات المتحدة، بل سيمتد إلى باقي أجزاء النظام الاقتصادي العالمي.

وهنا تشير “ذا إيكونوميست” إلى مفارقة بارزة: الدراسات الأكاديمية التي سبقت عهد ترامب كانت قد خلصت إلى أن الضرر الاقتصادي الناجم عن الحمائية الأميركية لن يكون موجهاً للخارج فقط، بل سيعود ليتسبب بآلام داخلية تضاهي –وربما تفوق– تلك التي سيتعرض لها الشركاء التجاريون. ويبدو أن الواقع بدأ يتطابق مع هذه التوقعات.

وعلى الرغم من إصرار الرئيس الأمريكي على أن هذه السياسات ستكون مجديةً ونافعة على المدى المتوسط، غير أن توقعات أخرى تشير إلى التناقضات الهائلة بين كل إجراء على حدة. ففي حين يركز ترامبعلى استعادة المصانع العالمية إلى الداخل الأمريكي، من خلال تخيير الصناعيين الكبار بين دفع الرسوم على صادراتهم إلى الولايات المتحدة، وبين الانتقال بمصانعهم إليها، يقوم بنفسه وفي الوقت ذاته بشن حملةٍ على المهاجرين، الذين يمثلون جزءاً مهماً من قوة العمل الأمريكية.

ثم من جانبٍ آخر، تطلب إدارة ترامب من جيروم باول، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، أن يخفض معدل الفائدة، وتعزز مسار السيطرة على سياسات المصرف، وهي بذلك تخاطر في المزيد من زيادة التضخم، بموازاة مخاطرةٍ أخرى متزامنة، قوامها انعكاسات هذه السياسيات على القدرة الشرائية للأمريكيين، الذين بدأت أصواتهم تعلو الآن.

قوة كامنة أم طمأنينة زائفة؟

ورغم هذا المشهد القاتم، يبدو أن الاقتصاد العالمي ما يزال يتمتع بهوامش مقاومة. فبحسب “مؤشر النشاط الحالي” الصادر عن بنك غولدمان ساكس، والذي يجمع عدداً من المؤشرات المهمة، فإن النمو العالمي لا يزال قريباً من إمكاناته القصوى، وإن كان أقل منها بقليل. كما أن معدلات البطالة في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لا تزال تحت سقف 5%، وهو مستوى يُعد صحياً في الظروف العادية.

أما في الداخل الأمريكي، فإن نقطة الانطلاق تبدو أكثر متانة. فقد أظهرت بيانات الوظائف أن الاقتصاد الأمريكي قد أضاف 228 ألف وظيفة في الشهر الأخير، وهي أرقام تفوق التوقعات وتعكس استمرار الزخم في سوق العمل. وقد يكون هذا السبب في أن ترامب، رغم قراراته الصادمة، لم يدفع الاقتصاد الأمريكي إلى حافة الهاوية بعد، بل لا يزال يركب موجة من النمو القوي الذي ورثه عن سلفه الديمقراطي جو بايدن.

ومع ذلك، يبقى السؤال المفصلي: كم من الوقت يمكن لهذا الاقتصاد أن يصمد أمام السياسات الحمائية؟ وهل سيظل قادراً على تحمّل الكلفة السياسية والاقتصادية لحرب تجارية قد تخرج عن السيطرة؟

اعلان

وعلى الأغلب، لم تعد الرسوم الجمركية مجرد أدوات ضغط تفاوضي للحصول على مكاسب استراتيجية، بل تحوّلت إلى اختبارٍ جيوسياسي واقتصادي لأعمدة النظام الدولي. فإما أن يثبت العالم قدرته على امتصاص الصدمة والتكيف معها، أو أن نشهد انهياراً تدريجياً في بنية التجارة العالمية كما عرفناها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبالنظر إلى حجم المخاطر وتعقيد التفاعلات، فإن ما بدأه ترامب قد لا ينتهي عنده. وهو إما أن يؤدي إلى سيطرته سيطرةً مطلقة على سياسات الداخل الأمريكي والغرب، أو أنه سيؤدي إلى انهياراتٍ متتالية قد تطيح بمشروعه أولاً، وبالاقتصاد الأمريكي ثانياً، ثم تفجر أزمةً عالمية مدمرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى