خاصبين غزة وبيروت.. خطوط غير مرئية تعيد رسم المشهد

وفي هذا الإطار، ناقش “رادار” على سكاي نيوز عربية أبعاد التحولات الجارية من خلال مداخلات تحليلية قدمها عدد من الخبراء والمراقبين، حيث حاولوا تفكيك المشهد السياسي الراهن واستشراف مساراته المحتملة.
ميدان متغير وتوازن هش
استهلت مراسلتنا في واشنطن، أمينة أسريري، مداخلتها بعرض ميداني مكثف رسم صورة الواقع على الأرض، مشيرة إلى أن التطورات الأمنية والسياسية تسير بوتيرة متسارعة يصعب التنبؤ بها.
وأوضحت أن “المشهد في عدد من العواصم العربية بات يعكس توازنًا هشًّا بين ضغوط الشارع ومصالح القوى الإقليمية”، مؤكدة أن التحالفات القائمة لم تعد ثابتة كما كانت في السنوات السابقة.
وأبرزت أسريري أن التحركات الدبلوماسية في الأسابيع الأخيرة تكشف عن حالة من “إعادة التموضع” السياسي لدى عدة أطراف، في ظل تحولات في مواقف بعض القوى الكبرى تجاه أزمات المنطقة.
واعتبرت أن هذه التحركات “تفتح الباب أمام مقاربات جديدة قد تعيد رسم التوازنات الداخلية والخارجية، لكنها لا تلغي حالة القلق السائدة في الشارع العربي”.
تحليلا لذلك، يمكن القول إن ما نقلته المراسلة يعكس بوضوح مزيجا من الترقب والتوجس، حيث تبدو المنطقة في مرحلة انتقالية غير مكتملة المعالم، تقف فيها القوى المحلية والإقليمية بين خيارَي التهدئة والمواجهة المحدودة.
واقع ما بعد الأزمات واستحالة العودة إلى المربع الأول
أما المستشار في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عمر الشوبكي، فقد تناول الموقف من زاوية تحليلية أعمق، معتبرًا أن المنطقة “دخلت مرحلة ما بعد الأزمات”، حيث لم يعد ممكنا العودة إلى المربعات السياسية القديمة. وقال: “المعادلات التي حكمت المنطقة لعقد كامل تغيرت جذريًا، فالدول لم تعد تقاتل بالنيابة عن الآخرين كما في السابق، بل أصبحت تبحث عن ترتيبات توازن تضمن بقاءها واستقرارها الداخلي قبل أي حسابات خارجية”.
وأشار الشوبكي إلى أن التحولات الإقليمية الراهنة ليست مجرد رد فعل على الأحداث الميدانية، بل تعبير عن تحول في منطق إدارة النفوذ، موضحا أن بعض القوى الإقليمية باتت تدرك أن التصعيد المستمر لا يمكن أن يؤدي إلى مكاسب دائمة.
وفي تحليله، شدد على أن “التهدئة الجزئية” التي تشهدها بعض الجبهات لا تعني بالضرورة بداية مرحلة سلام، بل ربما تكون إعادة توزيع للأوراق قبل جولات جديدة من التفاوض أو التصعيد.
وتُظهر رؤية الشوبكي أن التحول الجوهري في المنطقة يتمثل في انتقال الصراعات من الطابع العسكري إلى صيغ النفوذ الاقتصادي والسياسي، وهو ما قد يفتح الباب أمام ترتيبات جديدة بين القوى الكبرى في الشرق الأوسط، خاصة مع دخول ملفات الطاقة وإعادة الإعمار كعناصر مؤثرة في المعادلة الجيوسياسية.
توازنات دقيقة في ظل صراع الإرادات
من جانبه، تناول أستاذ العلوم السياسية الدكتور أمجد شهاب زاوية أخرى، ركز فيها على “توازنات القوى” في المشهد الإقليمي الراهن، مؤكدًا أن المنطقة تشهد صراع إرادات أكثر من كونه صراع حدود. وقال: “اللاعبون الإقليميون يسعون لتثبيت مواقعهم عبر الدبلوماسية القسرية، بينما تحاول القوى الكبرى إدارة اللعبة دون التورط المباشر، ما يجعل كل تسوية مؤقتة وقابلة للانفجار في أي لحظة”.
وأوضح شهاب أن العلاقات بين العواصم الكبرى تمر بمرحلة “إعادة اختبار”، إذ تسعى بعض الدول إلى توسيع هامش استقلاليتها عن المحاور الدولية، في حين تحافظ أخرى على تموضعها التقليدي.
وأضاف أن التغير في خطاب بعض العواصم “يعكس إدراكًا متزايدًا بأن الحلول الأمنية وحدها لم تعد كافية لإدارة الأزمات”.
ويرى شهاب أن التحول السياسي المقبل لن يُبنى على التحالفات القديمة، بل على مبدأ المرونة السياسية والقدرة على استيعاب المتغيرات الاقتصادية والأمنية في آن واحد.
ومن خلال قراءته، يتضح أن المشهد يتجه نحو إعادة تعريف للأدوار الإقليمية، حيث لم تعد هناك قوة قادرة على فرض إيقاع واحد للمنطقة، بل تعددت الإيقاعات وتداخلت المصالح.
المعادلة الاستراتيجية الجديدة وملف الأمن الإقليمي
أما الخبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية منصور معدي، فركز على البعد الأمني والاستراتيجي للأحداث، معتبرًا أن الشرق الأوسط اليوم يعيش معادلة أمنية جديدة تقوم على الردع المتبادل والتفاهم المرحلي، وليس على الاتفاقات الدائمة. وقال: “الفاعلون الإقليميون يدركون أن أي انهيار أمني شامل سيكلف الجميع، لذلك هناك ميل واضح نحو ضبط إيقاع الصراعات دون حلها جذريًا”.
وأوضح معدي أن تعدد الوسطاء الإقليميين والدوليين لا يعني بالضرورة قرب الحلول، بل يعكس حالة من التوازن السلبي التي تُبقي الملفات مفتوحة ضمن سقف محدد من التوتر. وأضاف أن بعض القوى الخارجية تحاول “إدارة الأزمة بدلاً من إنهائها”، لما تمنحه حالة اللاحسم من فرص تفاوض وضغط سياسي.
وفي تحليله لمستقبل المرحلة المقبلة، أكد معدي أن المنطقة مقبلة على صفقات متبادلة أكثر من تسويات شاملة، إذ تسعى كل دولة لتأمين مصالحها في ملفات الطاقة والحدود والأمن، في حين تبقى القضايا الكبرى مثل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي رهينة لتوازنات القوى الكبرى.
تقاطعات التحليل: خريطة مضطربة بين التهدئة والمواجهة
المشترك بين مداخلات الضيوف هو إدراكهم العميق أن المنطقة لا تعيش مرحلة استقرار، بل مرحلة إدارة مؤقتة للأزمات. فقد أكدت أمينة أسريري ميدانيًا هشاشة التوازنات، فيما رأى الشوبكي أن معادلات النفوذ تغيّرت، وأشار شهاب إلى تآكل التحالفات القديمة، بينما شدد معدي على أن الردع المؤقت بات السمة الأبرز للمشهد الاستراتيجي.
هذه القراءات مجتمعة ترسم صورة لشرق أوسط جديد قيد التشكل، لا تُحكمه شعارات الماضي ولا موازين القوى التقليدية. فالمعادلة باتت أكثر براغماتية: كل طرف يوازن بين ما يمكن تحقيقه ميدانيًا وما يمكن الحفاظ عليه سياسيًا.
ويبدو أن العواصم الإقليمية الكبرى باتت أكثر وعيًا بتكلفة المواجهة المباشرة، وأكثر ميلًا إلى سياسة “إدارة الوقت” بدل الحسم، في انتظار تغيّر موازين القوى الدولية.
الشرق الأوسط بين إرث الصراعات وفرص التحول
تكشف النقاشات التي شهدها “رادار” أن المنطقة تقف على مفترق طرق حقيقي. فبينما يرى البعض أن الأزمات المتكررة أنهكت الشعوب وأضعفت الهياكل السياسية، يرى آخرون أن ما يجري هو فرصة لإعادة بناء منظومة إقليمية جديدة، يكون فيها الاستقرار مصلحة مشتركة لا ترفًا سياسيًا.
لكن الواضح حتى الآن، كما خلص الخبراء المشاركون، أن التحول لن يكون سريعًا ولا متكاملًا. فكل تقدم في ملف يقابله تراجع في آخر، وكل تقارب دبلوماسي يظل مشروطًا بحدود النفوذ ومصالح القوى الكبرى.
إنها مرحلة انتقالية بامتياز — مرحلة توازن الضرورة، لا سلام الطمأنينة. وفي ظل هذا المشهد، تبقى المنطقة مفتوحة على احتمالات متناقضة: إما انبثاق نظام إقليمي أكثر توازنًا، أو جولات جديدة من الاضطراب، تعيد عقارب الساعة إلى نقطة الصفر.