هل يحلق صائد الطائرات الصيني في سماوات إيران قريبا؟

مع احتدام المواجهة العسكرية بين إسرائيل وإيران، على خلفية الهجوم العدواني الذي شنته إسرائيل ضد منشآت نووية وعسكرية إيرانية، واغتيالها أبرز القادة العسكريين والعلماء النوويين الإيرانيين، برزت تساؤلات حول طبيعة الدور الذي قد تلعبه الصين في هذا الصراع، واحتمال أن نشاهد أسلحة صينية في ساحة المعركة، كما حدث في ردّ باكستان على العدوان العسكري الهندي في مايو/أيار الماضي.
فعندما شنت الهند هجومها العسكري على باكستان، اتبعت الصين “رسميا” موقفها الدبلوماسي المعتاد تجاه الأزمات الدولية، داعية الطرفين إلى ضبط النفس.
ووصفت بكين الحدث “بالمؤسف”، وأكدت في أول تصريح لها أن “باكستان والهند جارتان للصين، وأن بكين تعارض جميع أشكال الإرهاب، وتحثّ الجانبين على العمل بما فيه مصلحة السلام والاستقرار، والحفاظ على الهدوء، وضبط النفس، والامتناع عن أي إجراءات قد تزيد من تعقيد الوضع”.
غير أنه في خضم التوترات، لاقت الأنباء حول استخدام باكستان أسلحة صينية اهتمامًا واسعًا، حيث اعتُبر أن السلاح الصيني لعب دورا حاسما لصالح إسلام آباد ضد نيودلهي. وأشارت تقارير إلى أن الطائرات وأجهزة الاستشعار وبشكل أخص الصواريخ الصينية؛ أسهمت في إسقاط عدد من الطائرات الهندية، ما سلط الضوء على مدى تطور منظومات التسلح الصينية وتفوقها التكنولوجي النسبي، مقارنة حتى بترسانات بعض الدول المتحالفة مع الغرب في آسيا، وفي مقدمتها الهند.
وبصورة مماثلة لباكستان، تتمتع الصين بعلاقة اقتصادية وعسكرية قوية مع إيران، ولطالما نسبت مراكز الأبحاث الغربية لبكين أدوارا في التحديث العسكري والنووي الإيراني.
غير أن نظرة الصين للصراع الإسرائيلي الإيراني ربما تختلف عن نظرتها للصراع الهندي الباكستاني في جوارها المباشر، كما أن مخزونات طهران “الفعلية” من الأسلحة الصينية الحديثة تظل ضئيلة للغاية إذا ما قورنت مع نظيرتها في إسلام آباد، وهو ما يجعل قياس الحالة الإيرانية على ما حدث مع باكستان قبل أسابيع قياسا غير دقيق في أدنى الأحوال.
الأصدقاء الجدد
تشترك إيران والصين في أن كلا منهما وريث لحضارة عريقة وممتدة، تشكل إحساسه بالهوية وسعيه إلى المكانة في عالم اليوم، كما يتشارك البلدان شعور الاستياء المتفاقم تجاه النظام الدولي “غير العادل والخاضع للهيمنة الغربية”.
ففي فترة غير بعيدة من تاريخها، قُسمت إيران فعليا إلى مناطق نفوذ من قبل روسيا وبريطانيا في القرن 19، وبمجرد صعود النظام الثوري الإسلامي، نُبذت طهران عالميا ووضعت تحت مقصلة عقوبات غربية لا تنتهي. وبالمثل، عانت الصين “قرنا من الإذلال” على يد القوى الغربية وخضع نظامها الشيوعي للعقوبات على مدار فترة طويلة من تاريخه.
بيد أن العلاقات بين البلدين كانت محدودة طوال حقبة ما قبل الثورة الإيرانية، بسبب الضغوط الأميركية على شاه إيران للبعد عن الصين الشيوعية، رغم أن التحركات السوفياتية في وسط وشرق آسيا دفعت البلدين إلى نوع من التعاون، وكان هوا جيو فنغ، خليفة ماو تسي تونغ في رئاسة الحزب الشيوعي الصيني، من بين آخر المسؤولين الأجانب الذين التقوا بالشاه قبل انهيار نظامه، وهو تصرف لم يتسامح معه آية الله الخميني الذي سارع إلى تصنيف الصين ضمن “القوى الكبرى الساعية لاستغلال إيران”.
ومن جانبها سارعت بكين إلى خطب ود النظام الجديد عبر الاعتراف بالجمهورية الإسلامية بعد 3 أيام فقط من تأسيسها.
تدريجيًا، تمكنت الصين من تحسين علاقاتها مع إيران الثورية من خلال الدبلوماسية، والأهم عبر بيع الأسلحة خلال الحرب الإيرانية العراقية. وغالبًا ما كانت المبيعات العسكرية الصينية لإيران تُقدم بشكل غير مباشر وسرّي من خلال عمليات بيع/نقل لأطراف مثل كوريا الشمالية، لكنها ظلت جوهرية في دعم المجهود الحربي الإيراني.
وتضمنت هذه المبيعات صواريخ باليستية تكتيكية وصواريخ كروز مضادة للسفن مثل “سيلك وورم” التي استخدمتها طهران ضد السفن خلال حرب الناقلات عام 1987، ما دفع واشنطن إلى الضغط على بكين لوقف تزويد إيران بصواريخ “سيلك وورم” و”سي-802″ الأكثر تطورًا.
وبدلاً من بيع الصواريخ لإيران مباشرة، تحولت المساهمات الصينية نحو تطوير القطاع الصناعي العسكري المحلي في طهران، حيث يمكن رؤية التصميم والتكنولوجيا الصينية في العديد من سلاسل الصواريخ الإيرانية، من صواريخ عقاب ونازعات قصيرة المدى إلى صواريخ شهاب طويلة المدى وصواريخ كروز المضادة للسفن مثل صاروخ نصر وهو نسخة معدلة من صاروخ “سي-704” الصيني، كما ورد أن بكين زودت طهران بألغام متطورة مضادة للسفن وزوارق هجومية سريعة، وفق لتقارير معهد “راند” وثيق الصلة بوزارة الدفاع الأميركية.
ورغم صعوبة تحديد القيمة الإجمالية للمبيعات العسكرية الصينية لإيران، فإن معهد راند قدرتها بما بين 4-10 مليارات دولار “وفق بيانات عام 2012”. ولكن يبقى دور الصين في تطوير البرنامج النووي الإيراني إحدى العلامات المهمة في العلاقات بين البلدين، فخلال الفترة بين عامي 1985 و1996، زودت بكين طهران بأنواع مختلفة من التكنولوجيا والآلات النووية الحيوية وساعدتها في استكشاف اليورانيوم وتعدينه، وكذا في تقنيات التخصيب “للأغراض السلمية”.
وأكثر من ذلك، لعب الفنيّون والمهندسون الصينيون دورًا هامًا في تدريب المهندسين النوويين الإيرانيين، وفي إنشاء مركز أصفهان للأبحاث النووية، الذي لعب دورًا محوريًا في تطوير البرنامج النووي الإيراني (قصفته إسرائيل خلال المواجهة الحالية).
وكان لتحول الصين إلى مستورد صافٍ للنفط في التسعينيات دوره في دفع العلاقات الصينية الإيرانية، حيث بات النفط الإيراني محركا رئيسيا لنمو الاقتصاد الصيني، في حين وجدت إيران “المنعزلة” في الصين حليفا مهما لتلبية احتياجاتها العسكرية والالتفاف على العقوبات الغربية.
علاقة تحت الحصار
بيد أن تلك الصداقة الإيرانية الصينية لم تخلُ من منغصات فرضت قيودا على التعاون بين البلدين. على سبيل المثال، في عام 1997 توقفت الصين عن تقديم الدعم النووي المباشر لإيران كجزء من جهودها لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة في أعقاب أزمة مضيق تايوان، وهو قرار تسبب في خلاف كبير مع إيران. لكن المساعدة النووية السابقة والمعرفة التي اكتسبتها طهران مكنتا برنامجها النووي من المضي قدما في غياب المساعدة الصينية.
وبحلول مطلع الألفية عادت العلاقات إلى مجرياتها مع تحرر الصين نسبيا من القيود الغربية في أعقاب انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، ما منح الشركات الصينية حرية أكبر للعمل في طهران، وعلى وجه الأخص في قطاع الطاقة.
على سبيل المثال حافظت شركة البترول الوطنية الصينية (CNPC) على وجود نشط في السوق الإيرانية من خلال شبكة من الشركات التابعة. وفي عام 2007، استثمرت الشركة في حقل كيش، وهو ما اعتُبر آنذاك خطوة استراتيجية نحو ترسيخ نفوذها في البنية التحتية للطاقة الإيرانية.
لاحقًا، في يناير/كانون الثاني 2009، وقّعت إيران اتفاقيات مع الشركة الصينية لتطوير حقل آزادغان الجنوبي، وهو من أكبر الحقول النفطية في إيران. وفي العام نفسه، استحوذت الشركة على الحصة الأكبر في شركة نفط إيران للتجارة الدولية (NICO)، وهي شركة تابعة لشركة النفط الوطنية الإيرانية، ومسجلة في سويسرا، ما عُدّ خطوة لتعزيز التعاون في الأسواق الدولية رغم بيئة العقوبات المتزايدة. وبشكل عام، توسعت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين لدرجة أن الصين أصبحت الشريك التجاري الأول لإيران منذ عام 2007.
لكن بمرور الوقت، أثرت العقوبات على قدرة الطرفين على الالتزام بمقتضيات الشراكة، ما دفع العديد من الشركات الصينية إلى الانسحاب من مشاريع حيوية في قطاع الطاقة الإيراني، إذ فشلت شركة النفط الصينية في استكمال مشروع تطوير حقل آزادغان الجنوبي ضمن الجدول الزمني المحدد، ما دفع وزارة النفط الإيرانية في عام 2014 إلى إلغاء العقد رسميًا، بعدما تم إنجاز 7 آبار فقط من أصل 185 بئرًا كانت مقررة في المرحلة الأولى. وفي محاولة لإحياء المشروع، دخلت الأطراف مفاوضات جديدة عام 2016، إلا أنها باءت بالفشل أيضًا.
ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي تتخلف فيها الشركات الصينية عن التزاماتها. ففي عام 2007، وقّعت شركة بتروتشاينا، اتفاقية مع شركة النفط الوطنية الإيرانية لتولي إدارة مشروع لنقل الغاز الطبيعي المسال، لكن المشروع توقف لاحقًا. وفي جزيرة كيش، أبدت شركات صينية، مثل شركة بي أي بي الوطنية – كيش وشركة بيرسيا للخدمات الفنية – كيش، اهتمامًا بتطوير حقل غاز كيش، وباشرت فعليًا في بناء البنية التحتية الأولية، غير أن المشروع لم يشهد أي تقدم ملموس.
وفي عام 2018، حاولت شركة البترول الوطنية الصينية تعزيز حضورها في فضاء الطاقة الإيراني من خلال الاستحواذ على حصة شركة توتال الفرنسية البالغة 50.1% في المرحلة 11 من حقل بارس الجنوبي للغاز، وذلك عقب انسحاب توتال تحت ضغط العقوبات الأميركية. لكن هذا التوسع لم يدم طويلًا، إذ انسحبت شركة البترول الوطنية الصينية من المشروع لاحقًا، مشيرة إلى تحديات مشابهة في بيئة الأعمال.
وفيما يبدو، فإن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة الموقعة بين بكين وطهران عام 2021 والتي تلتزم بموجبها الصين (وفق مصادر غير رسمية) باستثمارات قدرها 400 مليار دولار في مشاريع تشمل النفط والغاز والطاقة النووية والموانئ والسكك الحديدية والتقنيات العسكرية في إيران، مقابل مزايا تفضيلية في أسعار النفط الإيراني، فضلا عن دفع حصة من ثمن وارداتها النفطية من إيران في صورة صادرات سلع صينية، يبدو أنها لم تفلح حتى الآن في الإفلات من هذه القيود تماما.
حيث لم تعلن الشركات الصينية منذ ذلك الحين عن استثمارات في إيران توازي تلك التعهدات، وهو ما يخبرنا أن الحضور الصيني في قطاع الطاقة الإيراني (وبيئة الأعمال الإيرانية بشكل عام)، رغم ما يحمله من رمزية استراتيجية، ظل مقيدًا بواقع العقوبات الدولية وتقلّبات الجغرافيا السياسية، وأن الشركات الصينية تتبنّى مواقف أكثر حذرًا كلما تصاعدت الكلفة السياسية والاقتصادية للمغامرة في السوق الإيرانية.

حسابات بكين.. لا حسابات طهران
وعلى ما يبدو، فإن انخراط الصين النشط في مباحثات الاتفاق النووي مع إيران الذي أُعلن عنه عام 2015 (في عهد إدارة أوباما)، كانت مدفوعة جزئيا برغبتها في الانعتاق من هذه القيود، بجوار مجموعة من الاعتبارات الاستراتيجية الأخرى.
أول هذه الاعتبارات كان سعيها لإبراز دور دبلوماسي ملموس على الساحة الدولية، ولكن بشروط واضحة، أهمها أن يتم ذلك ضمن إطار جماعي، لا من خلال وساطة منفردة، إذ تميل السياسة الخارجية الصينية إلى تجنب الانخراط الأحادي في الوساطات، خاصة في القضايا الدولية الشائكة، وبالتالي لا تتحمل الصين وحدها مسؤولية الفشل في حال حدوثه.
العامل الثاني الذي حفّز الصين على دعم الاتفاق النووي يتمثل في موقع إيران في سياق التنافس الصيني-الأميركي، فطهران تمثل شريكا مهمًا لبكين في إطار مشاريعها الاقتصادية العابرة للقارات، وعلى رأسها مبادرة الحزام والطريق، هذا بخلاف ضمان تدفق الطاقة إلى الصين بأسعار تنافسية بعيدا عن العقوبات.
ولهذا السبب، نصّ الاتفاق النووي على رفع جميع العقوبات الاقتصادية والحظر التجاري المفروض على إيران، ما شكّل أملا للصين لتعزيز أمنها الطاقوي بعيدا عن الاعتماد على روسيا (وهي منافس تاريخي للصين رغم الصداقة بين البلدين اليوم) ودول الخليج العربية (الحليفة تقليديا للولايات المتحدة).
العامل الأخير يرتبط بموقف الصين المبدئي من الانتشار النووي، إذ تعارض بكين، كما هو معروف، امتلاك أي دولة للسلاح النووي بما فيها إيران. لكنها في المقابل، تدافع عن “الحق السيادي للدول في الاستخدام السلمي للطاقة النووية”، شريطة أن يكون ذلك تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وبموجب الاتفاق النووي، قدمت الصين 4 ملايين يوان صيني (أكثر من 500 ألف دولار) لوكالة الطاقة الذرية لمهام التفتيش ذات الصلة في إيران عامي 2015 و2016.
لذلك، لم يكن مستغربا انتقاد الصين الشديد للانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي عام 2018، ورفضها التهديدات الأميركية للدول التي تعارض سياسة واشنطن بهذا الشأن، حيث اعتبر وزير الخارجية الصيني آنذاك أن ما يحدث “عبث وهراء”، متهما الولايات المتحدة بالتلاعب بالقانون الدولي، ليس فقط عن طريق الانسحاب من الاتفاق، بل عن طريق إرغام الدول الأخرى على فعل ذلك وتهديدها بالعقوبات إذا لم تفعل.
المهم في هذا السياق، أن الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي تزامن مع تزايد التوتر بين واشنطن وبكين في قضايا متعددة خلال فترة ولاية ترامب الأولى، خاصة فيما يتعلق بتايوان والتجارة.
وقد انعكس هذا التوتر على تعامل الصين مع الملف الإيراني، حيث أصبح الدفاع عن الاتفاق النووي (وعن الحل السلمي للمسألة النووية الإيرانية) ومعارضة “التحرش الغربي” المستمر بطهران؛ بمثابة موقف مبدئي للصين ضد السياسة الخارجية الأميركية، أكثر من كونه دفاعًا عن إيران بحد ذاتها.

قيود التنين
على المستوى السياسي إذا، من المؤكد أن بكين تعارض من حيث المبدأ الهجوم الإسرائيلي على إيران (المدعوم من الولايات المتحدة) لأنه يمثل خروجا عن المسار الدبلوماسي في حل المسألة النووية الإيرانية، والأهم لأنه يعد استمرارا لنهج الولايات المتحدة في تجاهل القانون الدولي لخدمة مصالحها ورغائب حلفائها، وهو ما أظهره موقف بكين الأولي الذي أكد على “حق طهران في الدفاع عن حقوقها ومصالحها المشروعة وضمان أمن وسلامة شعبها”، وانتقادها لهجمات إسرائيل “التي تنتهك المعايير الأساسية للعلاقات الدولية”.
من المؤكد أيضا أن الحرب الإسرائيلية الحالية على إيران تضع تحديات كبيرة على مائدة بكين، لا تتعلق فقط بمسار تطوير العلاقات الصينية-الإيرانية في قطاع الطاقة، ولكن أيضًا بمشاريع بكين الأكبر، وفي مقدمتها مبادرة “الحزام والطريق”، حيث تُعد إيران الدولة الأهم في “الحزام الاقتصادي لطريق الحرير”، الذي يهدف إلى تسهيل تدفق البضائع والبنية التحتية بين الصين وأوروبا من خلال طرق برية وسكك حديدية عابرة للقارات.
ولا يتوقف دور إيران في الرؤية الصينية على موقعها الجغرافي فحسب، بل يمتد إلى مواردها وطاقتها وقدرتها على تقديم بدائل لوجستية متقدمة لبكين، ما يجعلها حلقة مركزية في هذا المشروع العالمي.
وفق هذه الرؤية، تمثل الحرب الحالية تهديدًا مباشرًا لطموحات الصين الاقتصادية والجيوسياسية، خاصة أن هذا الطريق الصيني لا يملك بديلًا بريًا واقعيًا في المنطقة يمكنه تجاوز الأراضي الإيرانية دون تكبد خسائر استراتيجية ولوجستية كبيرة. وعليه، فإن تعطل هذا الطريق بفعل النزاع، من شأنه أن يؤثر سلبًا على سلسلة التصدير الصينية عبر أوراسيا، التي تمر من الصين إلى أوروبا.
وعلى ضوء هذه المعطيات، قد تجد الصين نفسها مضطرة إلى اتخاذ موقف سياسي أكثر حزمًا تجاه إسرائيل، مقارنةً بموقفها “الخجول” تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة.
ورغم ذلك، فمن غير المرجح أن الموقف الصيني سيلبي تلك التكهنات “المبالغ فيها” حول إمكانية أن تدعم بكين المجهود الحربي الإيراني، وأننا سنرى قريبا الصواريخ الصينية المتقدمة تحلق في الأجواء الإيرانية مثل صواريخ جو-جو من “بي إل-15” (PL-15) التي استخدمتها القوات الباكستانية قبل أسابيع لإسقاط الطائرات الهندية.
هناك فوارق جوهرية بين المعركة حول باكستان والمعركة حول إيران من وجهة نظر بكين على الأقل.
- بادئ ذي بدء، تدور المعركة بين الهند وباكستان في الجغرافيا المتاخمة للأراضي الصينية، وهي تمس أمن الصين القومي بشكل مباشر، كما أن خصم باكستان فيها -أي الهند- يُعد خصما جيوسياسيا إقليميا لبكين، ويتنازع البلدان منذ عقود على طول الحدود الممتدة بينهما، بعكس إسرائيل البعيدة جغرافيا عن الصين وتربطها بها علاقات اقتصادية جيدة وعلاقات سياسية “باردة”.
- ثانيا، باكستان ليست دولة خصما للغرب أو مكبلة بالعقوبات، بما يعني أن التكلفة السياسية للانحياز إلى إسلام آباد ودعمها (حال حدوثه) أقل من التكلفة السياسية للانحياز إلى إيران.
- ثالثا، الولايات المتحدة تُعد طرفا محايدا نسبيا في الحرب بين باكستان والهند (رغم الميل النسبي إلى الهند في السنوات الأخيرة)، لكنها الداعم الرئيسي للحملة العسكرية الإسرائيلية، وأي تورط عسكري صيني سيضع بكين في مواجهة مباشرة مع واشنطن. كما لا ترغب الصين في دخول مواجهة مباشرة مع الدول الأوروبية التي تفرض بالتنسيق مع الولايات المتحدة قيودًا على تصدير السلاح إلى إيران.
- وأخيرا، فإن الصين لم تنخرط أصلا بصورة مباشرة في جولة الصراع الأخيرة بين الهند وباكستان، وجل الأسلحة التي استخدمتها إسلام آباد في هذا الصراع كانت ضمن مخزوناتها قبل وقت طويل. فقبل شهرين من التصعيد، نشر معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) تقريرًا أشار فيه الى أن 81% من واردات باكستان من الأسلحة خلال السنوات الخمس الماضية جاءت من بكين، وهو ما مثل ثلثي صادرات الصين الدولية من الأسلحة (63% تقريبا).
وفي المقابل، يبدو أن واردات الأسلحة الصينية لإيران تراجعت كثيرا خلال العقد الأخير، حيث يشير تقرير آخر للمعهد صدر في أبريل/نيسان الماضي إلى أن روسيا كانت المورد الرئيسي للأسلحة لطهران بين عامي 2015 و2019، وبقيت المورد الوحيد فعليًا للأسلحة الرئيسية بين عامي 2020 و2024. وبشكل عام، رصد المعهد أن واردات الصين من الأسلحة كانت محدودة جدا، مقارنة بجيرانها من دول الخليج العربية.
وعلى عكس باكستان، تمتلك إيران ترسانة جوية “متقادمة” نسبيا، وركزت خلال العقود الأخيرة على القدرات المحلية في مجال الصواريخ والقطع البحرية الخفيفة، إضافة إلى البرنامج النووي (ربما تكون بكين دعمت طهران بشكل غير مباشر في هذه الجهود).
والسبب الرئيسي أن العقوبات التي أعاقت العلاقات الاقتصادية بين بكين وطهران ،أعاقت أيضا الواردات العسكرية المباشرة، رغم أنها لم تلغ تماما العلاقات العسكرية بين الصين وإيران. ففي الفترة بين عامي 2019 و2024، أجرت الدولتان 5 مناورات بحرية مشتركة، بمعدل مناورة كل سنة، وهو ما يدل على مستوى معين من التعاون العسكري.
اليد المغلولة
تشير التصريحات الأولية للصين تجاه الحرب بأنها وضعت حدودًا لتدخلها، منسجمة مع نهجها المعتاد في التعامل مع الأزمات الإقليمية. يتمثل هذا النهج في دعوة الأطراف للجوء إلى الوسائل السلمية، ودعم وقف إطلاق النار في الأمم المتحدة، ومطالبة مجلس الأمن والمجتمع الدولي بأداء أدوار أكثر فعالية، والتأكيد على استعدادها للانخراط في أي وساطة مستقبلية حول الملف النووي الإيراني.
فقبل يوم من بدء العدوان الإسرائيلي على إيران، قال المتحدث باسم الخارجية الصينية، لين جيان، إن بلاده مستعدة “لتعزيز التسوية السياسية والدبلوماسية للقضية النووية الإيرانية”، مؤكدًا التزام بكين بدعم النظام الدولي لمنع الانتشار النووي. وقد بدا أن هذا التصريح يؤسس لموقف استباقي، يرسم حدود دور الصين المحتمل: دعم سياسي ضمن أطر شرعية متعددة الأطراف، لكن دون تورّط مباشر في ديناميات الصراع أو المبادرات الأحادية.
ومع اندلاع الحرب، عبّر المتحدث الصيني لين عن “قلق بالغ” إزاء الهجمات، داعيًا إلى “تفادي التصعيد وتوسيع رقعة النزاع”، ودعت بكين “الأطراف المعنية” إلى اختيار مسار العمل الذي “يُفضي إلى السلام والاستقرار في المنطقة، وتجنب المزيد من تصعيد التوترات”.
وفي الاجتماع الطارئ لمجلس الأمن الذي عُقد على خلفية الاعتداءات الإسرائيلية، كرر المندوب الصيني لدى الأمم المتحدة فو كونغ، المواقف نفسها، ولكن بلغة أكثر صرامة، إذ طالب بوقف “المغامرات العسكرية الإسرائيلية”، وهي لغة سياسية لا تخلو من الحزم، لكنها لا تشير إلى نية بكين تجاوز “دورها” الدبلوماسي.
لكن المشكلة أن هذا الموقف الصيني غير الحاسم تجاه الصراعات يسهم في تثبيت السردية السائدة حول كون بكين شريكا أمنيا وعسكريا لا يسعى في فعل ما يلزم لمنافسة الولايات المتحدة على القيادة الدولية، رغم تنديدها المستمر بالقيادة الأميركية. وسيكون عزوف الصين عن مساندة شريك يخضع للإكراه و”الابتزاز” الأميركي رسالة سلبية جديدة حول مدى قدرتها على قيادة “الجنوب العالمي” الراغب في الانعتاق من أسر الهيمنة الأميركية.